صناعة الإثارة و السبق الصحفي
عاجل:” أفادت مصادر مطلعة عن إلقاء القبض على …”.
خطير: “مداهمة مخبأ سري…”
حصري”:تمكنت جريدتنا من الحصول على وثائق بالغة الحساسية، تهم أشخاصا نافذين في …”.
هكذا اصبحت الكثير من مواقعنا الإلكترونية تطالعنا بمثل هذه العناوين المثيرة و المحدتة لزوبعة من الإثارة ، و الهادفة إلى خلق دفق من التشويق، و دفعنا إلى الإسراع في قراءة الخبر مستغلة فضولنا، و الذي قد لا يكون فضولا معرفيا في كثيرمن الأحيان ، بقدرما ما هو حب إستطلاع لحظي، يتبخر لحظة إنتهاءنا من قراءة الخبر.
تتسابق الكثير من المنابر الإعلامية على الأخبار و الفضائح و الإشاعات و التي تجد جمهورا عريضا، تزداد قاعدته إتساعا يوما بعد آخر، و متلهفا لتلقف الخبر دون التأكد من صدقيته، و هو أمر تتقاطع معهم فيه العديد من الوسائط الإعلامية والتي لا تتكبد أدنى عناء للتحري عن صحة الخبر.
للقصة بداية يجهلها الكثيرون والعارفون بها لا يبذلون الجهد الكافي لكشفها و إطلاع الرأي العام عليها، الحكاية ببساطة، إنهم يريدون صناعة إنسان وفق قوالب جاهزة همه الأساسي إشباع غرائزه و شهواته، انسان إستهلاكي بإمتياز.
القصة إبتدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية و صراع الإستقطاب بين معسكرين متنافرين إيديولوجيا متقاربين إستراتجيا همهم الأوحد الهيمنة و الإستحواذ على مقدرات العالم و التحكم في مصائر الشعوب و الأمم.
كان سلاحهما الفتاك الإديولوجيا المسنودة بالفكر إما إشتراكيا او ليبراليا، و التي توزع هواها مابين الشرق و الغرب .
في هذه الفترة ظهر مفكرون و منظرون إيديولوجيون و ساسة كثر، همهم الأساسي السيطرة و بسط النفوذ بحثا عن القوة و الإستفراد بالموارد و حشد رأي عام داعم و تابع، و لعل من أبرز ما لخص هوس التحكم في تلك الفترة هو كتاب الفيلسوف الألماني إيريك فروم -أحد رواد مدرسة فرانكفورت- المعنون ب “الإنسان المستلب”،هذا المنجز العلمي دعا فيه الى خلق غزارة في الإنتاج على مختلف مستويات الحياة الإنسانية، و تشجيع الإستهلاك الى اقصى درجاته و تخفيض الأسعار إلى أدنى مستوياتها، لتكون المحصلة النهاية، و في الأخير إنسان إستهلاكي بإمتياز.
اليوم نجد إنسانا متلهفا إلى إرواء نزواته و إشباع غرائزه الى حد التخمة و بأزهد الأثمان و أقل مجهود.
لذا بات الهم الكبير لنا الإنسياق و راء كل جديد وغريب و مثير، هكذا اصبحت صحافتنا تتفنن في مباغتتنا بالصور المثيرة و العناوين المنمقة بعناية ، وفي أحيان أخرى إختلاق أحداث و سرد حكايات تتتميز بالغرائبية و ذات خيال جامح و طافح بالاواقع.
هذا المنتوج الإعلامي الذي يكون فيه حضور قوي للإثارة، ويكون متبلا بالكثير من المؤثرات الصوتية و المرئية ، يلقى متابعة واسعة، رغم بعض حالات الإستهجان التي تسجل من حين لآخر، لكن حدتها تبدأ في الخفوت بفعل حالة التطبيع مع هذا المنتوج و الذي تزداد دائرته إتساعا.
شأنا أم أبينا، إتفقنا أم إختلفنا ، هذه السلعة الإعلامية تلقى رواجا و متابعة كبيرتين، وقطر إشعاعها يزداد تمددا يوما بعد اخر،و منسوب مناعة مجتمعاتنا بدأ في النفاذ امام هذا الغزو الثقافي و الإعلامي و الإقتصادي الجارف لقيمنا و ثقافتنا. لنجد أنفسنا في نهاية المطاف، اننا قد وقعنا ضحية إستعمار جديد و تبعية مذلة نتائجها ستكون كارثية لا محالة.
تحرير: محمود عياش .